أخبار محلية

القيروان على درب المدن الخضراء: انطلاق مشروع الانتقال الطاقي نحو مدينة مستدامة

today18 نوفمبر، 2025 13

Background
share close

القيروان على درب المدن الخضراء: انطلاق مشروع الانتقال الطاقي نحو مدينة مستدامة

في قلب السهول التي احتضنت أولى خطوات الحضارة الإسلاميـة في شمال إفريقيا، تقف القيروان، اليوم أمام منعطف جديد لا يقل أهميـة عمّا عاشتـه في تاريخهـا الطويل. فهذه المدينـة التـي طالمـا كانت منارة علم ودين، تجد نفسها الآن أمام محاولة لخلق “منارة من نوع آخر” تُضيء شوارعهـا وتعيد الثقـة إلى فضائهـا الحضري عبر مشروع يهدف إلى إعادة بناء منظومة الإضاءة العمومية على أسس الكفاءة والذكاء والحداثة.

ورغم أن الحـديث عـن تغـيير المصـابيـح قد يبدو للـوهـلـة الأولـى موضـوعـا تقنيـا بحتـا، إلا أنـه فـي الحقيقــة مشروع يختبر قدرة المدينة على الانتقال من ثقل البنية التقليدية إلى آفاق المدن المستدامة، ومن الاعتماد على الخيارات الاضطرارية إلى هندسة مستقبلية واعية.

مشروع يتقاطع فيه المحلي بالعالم

يتحرك العالم اليوم بخطى متسارعة نحو تقليل الانبعاثات وتحسين كفاءة استهلاك الطاقة، فيما تعيش البلديات التونسية خاصة الداخلية منها حالة ضغط مالي وتشغيلي متزايد، جعلها غير قادرة على تجديد شبكاتها أو تحديث خدماتها،ودفعها نحو الانخراط ضمن المشاريع العالمية المستدامة.

ومن هنا، جاء المشروع الذي ينفذه برنامج مشروع الأمم المتحدة الإنمائي (PNUD)، ضمن برنامج ممول من صندوق البيئـة العالمي (GEF)، ليشكّل نقطـة التقاء بين الحاجـة الملحّـة للقيروان والتوجهات الدولية الكبرى، و ليمنح المدينة فرصة للانتقال من دائرة المشاريع الصغيرة المتقطعة إلى مسار إصلاحي متناسق ومدعوم تقنيًا وماليًا.

ومع ذلك، لا يمكن النظر إلى هذا المشروع بمعزل عن الظروف التي تراكمت عبر سنوات، إذ إنّ الشبكة الحالية للإضاءة في القيروان لا تعاني فقط من الاستهلاك المرتفع، بل أيضًا من تهالك البُنى الحاملة لها، وتشتت تدخلات الصيانة، وضعف التناسق بين الأحياء، وتعدد النقاط المظلمة التي عززت شعور المواطنين بعدم الأمان. ولعلّ هذا التداخل بين المشاكل التقنية والأمنية والاجتماعية يعكس حجم الحاجة إلى تدخل شامل لا يُعالج الأعطال فحسب، بل يُعيد صياغة علاقة المواطن بالمجال العام.

و اختيرت القيروان لتكون ضمن المشروع لكونها  من أكثر المناطق حرارة في تونس، إذ يصنّف مناخها ضمن المناخ شبه الصحراوي الحار، حيث يبلغ متوسط درجة الحرارة السنوي نحو 22.3  درجة، بينما تصل درجات الحرارة اليومية في الصيف إلى متوسط 37.1 درجة وقد تتجاوز ذروة الحرارة 50 درجة في بعض الأيام، وفقًا للمعهد الوطني للرصد الجوي. كما تشير توقعات البنك العالمي إلى أنّ نسبة السكان المعرضين لموجات حر شديدة في المناطق الداخلية مثل القيروان ستزداد خلال العقود القادمة، مما يعكس ضغوطًا متنامية على البنية التحتية الطاقية والاقتصادية للمدينة، ويبرّر الحاجة الملحّة لمشروعات النجاعة الطاقية والإضاءة الذكية.

و في هذا السياق صرّح لطفي العبيدي، المدير الجهوي لوزارة البيئة بالقيروان،خلال افتتاح الدورة التكوينية  الموجهة للصحفيين في نفس إطار المشروع يوم 11 نوفمبر 2025 أنّ القيروان “من أكثر المناطق ذات الحرارة المرتفعة في تونس و مشروع نحو مدينة مستدامة من خلال كفاءة الطاقة بالقيروان جاء كحل ناجع لهذه المشكلة.”

من جهتها، أوضحت بشرى الجواني، المكلفة بمشروع “القيروان نحو مدينة مستدامة بفضل النجاعة الطاقية”،خلال نفس الدورة التكوينية الموجهة للصحفيين أن هذا المشروع يتوافق مع التزامات تونس المناخية، ومع كلٍّ من الاستراتيجية الوطنية والمحلية للانتقال الطاقي وحماية البيئة. وأضافت أن المشروع يُعدّ نموذجًا عمليًا لترجمة هذه السياسات إلى إنجازات ملموسة داخل المدن.

يشار انه قد انطلق تنفيذ المشروع على مسافة تمتد لـ 24 كيلومترًا داخل مدينة القيروان، من خلال تركيب 798 فانوس LED عالي النجاعة، ما سمح بتحقيق اقتصاد مهم في استهلاك الطاقة التقليدية يُقدّر بحوالي 350 ميغاواط سنويًا. كما أسهم في تقليص الانبعاثات بما يقارب 185 طنًا من ثاني أكسيد الكربون سنويًا، إضافة إلى تمكين بلدية القيروان من تحقيق توفير مالي معتبر يناهز 100 ألف دولار في السنة.

تمويل دولي، لكن برؤية محلية: كيف يتحوّل الدعم الخارجي إلى قدرة ذاتية؟

قـد يظن البعض أنّ التمويـل الدولـي الـذي تقدّر قيمتـه الأساسيـة بحوالـي 0.85 مليـون دولار مـن  صنـدوق البيئـة العالمـي (GEF) مجرد تمويل خارجي مؤقت. لكن ما يميز هذا المشروع تحديدا هو أنـه يراهن على بناء القـدرة المحـليـة بقدر مـا يراهن علـى الإنجـاز الميدانـي.فمن خـلال المنـاقصـات المنشـورة، يتبيّـن أن الهيكـلـة الكاملة للتدخل تعتمد على ثلاث ركائز مترابطة منها.

  تشخيص معمّق يسبق الفعل 

وفقا للمنظميـن يبدأ المشروع مـن قـراءة دقيقـة للـواقع، تبدأ بمرحـلـة التشخيص التـي تنطلق بدورهـا بـجـرد لأنظمة الإنارة،وثم تحليل مفصل للبنية الكهربائيـة، ولنقاط الأعطال، ولحجم الاستهلاك، إلى جانب  الخسـائـر غيـر المرئيـة الناتجـة عـن اهتراء الشبكـة.ليكـون هذا الـتشخيص بمثابـة مرآة جعلت البـلديـة تـرى حجم التحدي بوضوح.

تكوين وتأهيل… حتى لا تبقى القيروان أسيرة الخبراء الأجانب

برنامج الأمم المتحدة الانمـائي لـم يكتفي بتركيب المصـابيح  بـل اختـار إلـى ذلـك  تمكيـن الأعوان فـي تركيـب وإصـلاح الـتجـهيـزات الحديثـة، وهـو مـا يمثـل جـوهـر الـمشـروع، فالبلديـة بعـد المـشروع لـن تكـون مجـرد جـهـة “تستقبل” الـتجهيـزات، بـل طرفًـا قـادرًا علـى إدارتهـا وصيانتهـا وفهم تعقيداتهـا التقنيـة.ليكون المشـروع بذلك مساقـا لنقل المعرفة  ولا تتلاشى مزاياه فور انتهاء التمويل.

تنفيذ “Relamping” في سياق رؤية شاملة 

LED  ليس هدفـا تقنيـا فحسب بل خطوة أولى نحو شبكة ذكية قادرة على استبدال المصابيح بمصابيح رصـد الأعطـال لحظيًـا، الـتحكم عـن بعـد في الإنـارة، قيـاس الاستهـلاك بدقـة، تقليص التبذير، وتوجيـه الطاقـة حيـث تكـون الحاجـة أكبـر. فهو انتقـال مـن الإنـارة التقليديـة إلـى البنيـة الرقميـة التـي تشكـل العمـود الفقـري للمـدن الحديثة.

وأكـدت سيلين موايرود ممثلـة برنامج الأمـم المتحدة الإنمـائـي فـي تونـس خلال حضورها حفل إطلاق مشروع “القيـروان مدينـة مستدامة عبر النجاعة الطاقية” أن المشروع يمثّل خطوة مهمة لدعـم قدرات بلديـة القيـروان وتعزيز حلول النجاعة الطاقية، عبر اعتمـاد تقنيـات حديثـة للإضـاءة العموميـة بما ينعكس مباشرة علـى جودة الخدمات المقدّمة للمواطنين.

وزارة البيئة… حين تتلاقى الخيارات الوطنية مع التحولات المحلية

بيان وزارة البيئة حول المشروع لم يكن مجرد إعلان إداري، بل تأكيدًا على أنّ القيروان ليست حالة معزولة، بل جزءًا من سياسة وطنية تسعى لخفض الانبعاثـات وتحسين خدمـات البلديات.فالـوزارة ترى أن كفـاءة الطاقـة لم تعد خيارًا، بل ضرورة اقتصادية وبيئية، وأن الانتقـال نحـو مصابيح LED هو بدايـة لإصلاح قـد يشمـل لاحقـا المبانـي العمومية و الفضاءات الرياضية و الأنظمة الرقميـة الخاصـة بالتسيير اليومـي للخدمات.

هـذا الـتمشي سيعيـد القيـروان إلـى قلـب النقـاش الوطنـي حـول التنميـة المستدامـة، ويمنحها فرصـة لتكـون نموذجًا لبقية البلديات

الإضاءة العمومية… مرآة لأزمة البنية التحتية

لا يمكـن فهم أهميـة المشـروع دون النظـر إلـى الواقـع اليومـي للمدينـة.فالقيروان، مثـل العديـد مـن المـدن الداخلية، عاشت لسنوات تحت ثقل شبكة إنارة متآكلة أعمدة متهالكة أسلاك مكشوفة، نقاط مظلمة تشكل خطرًا على المارة، استهلاك كبير مقابل مردودية ضعيفة،وغياب صيانة منهجية بسبب قلة الأعوان،ومع كل ذلك، كانت فواتير استهلاك الكهرباء ترتفع عامًا بعد عام، مما أدى إلى نزيف مالي استنزف ميزانية البلدية.
لذلك، لم يكن المشروع رفاهًا، بل ضرورة ملحّة لتجنب انهيار كامل لمنظومة حيوية.

لماذا يمثل LED نقطة تحول لا مجرد تحسين؟

لأن اعتمـاد تكنولـوجيـا الإضـاءة الحديثـة و خاصـة مصابيح “LED” الطاقيـة يمثل اليوم أحد أكثر حلول النجاعـة الطاقيـة فعالية، فإن تأثيره يتجاوز بكثير مجرد تحسين الإنارة.فالمعطيات الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة تؤكد أن مصابيـح “LED” توفـر مابين 50 و80 بالمائـة مـن الطاقـة مقارنـة بالمصابيـح التقليديــة، وهـي نسبـة ترتفع أكثر عندما تكون الشبكة مهيّأة للعمل بنظام تحكم ذكي.

كمـا تضمـن هـذه المصابيح إضاءة أكثر انتظامًا ووضوحًـا بفضـل قدرتهـا علـى توزيـع الضوء بشكـل متجانس وتحسين الرؤية الليلية، وهو ما تنعكس آثاره مباشرة على إحساس المواطنين بالأمان في الفضاء العام وفق تقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة،كما تشير بيانات برنامج “متحدون من أجل الكفاءة الطاقية” إلى أن التحول الوطني نحو الإضاءة عالية الكفاءة، مثـل مصـابيح “LED” التـي يمكـن أن تحقـق توفيـرًا يصـل إلى 190 مليون دولار سنويًا في فاتورة الكهرباء على المستوى الوطني،بالإضافة إلى خفض نحو 190 ألف طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنويًا.

وتتميـز تكنولوجيـا  “LED”  كـذلـك بعمـر تشغيلـي طـويـل قـد يصـل إلـى 50 ألـف سـاعـة عـمـل أي مـا يـعـادل  5 إلى 10 مرات أكثر من المصابيـح التقليدية، ممـا يقلّـص بشكل كبير مـن تكالـيف الصيانـة الدوريـة ويخفّـف الضغط على فرق التدخل البلدي.

إضافـة إلـى ذلك، تُعد هذه المصابيح مهيّأة بطبيعتها للاندمـاج في شبكـات الإضـاءة الذكية، إذ يمكن ربطها بأنظمة مراقبـة عن بُعـد لقيـاس الاستهلاك ورصد الأعطال لحظيًا والتحكم في شدة الإضاءة حسب الحاجة، الأمر الذي يرفع من مردود الشبكة ويمنع التبذير.

ومن الجانب البيئي تشير بيانات  الاتحاد الدولي للإضاءة إلى أن إعتماد فوانيس “LED” يقلص من الانبعاثات الكربونية بشكل مباشر، نظرًا لانخفاض استهلاك الطاقة، حيث يمكن أن يساهم تعميمه على مستوى المدن في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة قد تتراوح بين 30 بالمائة و 60 بالمائة حسب حجم الشبكة.

وبذلك، تتحـوّل الإضاءة العـموميـة مـن مجـرد خدمـة تقنيـة تعمـل فـي الخلفية إلى عنصر استراتيجي يدعم التنمية الحضرية، ويعزّز أمان المواطنين، ويخفّض الضغط المـالي عـن البلديـات، ويجعل المدن أكثر قدرة على التكيف مع أهداف الانتقال الطاقي ومتطلبات الاستدامة.

مع ذلك… المشروع ليس بلا تحديات

يواجه مشروع تحويل الإضاءة العمومية في القيروان مجموعة من التحديات التي قد تؤثر على سرعة وفعالية تنفيذه، ويستلزم التعامل معها بعناية لضمان استدامته. أول هذه التحديات تتعلق بهشاشة البنية القديمة للشبكة الكهربائية فبالرغم من تركيب مصابيح “LED” الجديدة عالية الكفاءة فإن أجزاء كبيرة من الشبكة ما تزال متآكلة وتتطلب صيانة أو تجديدًا شاملاً، وهو ما قد يؤخر النتائج المنتظرة ويحد من الفعالية الكاملة للمشروع في بعض المناطق. هذه الحالة توضح أن المشروع لا يقتصر على استبدال المصابيح فحسب، بل يتطلب تدخّلًا أوسع لإعادة تأهيل البنية التحتية بما يواكب معايير المدن المتقدمة.

ثانيًا، يطرح موضوع المتابعة والصيانة تحديًا طويل الأمد، إذ أن أي مشروع تقني يفشل في توفير آلية مستدامة للمتابعة بعد انتهاء التمويل يصبح عرضة للتدهور بسرعة. فالتحدي الحقيقي يكمن في قدرة البلدية على الحفاظ على جودة الشبكة ومردودها بعد انتهاء الدعم الدولي، بما يضمن استمرار توفير الإضاءة بشكل منتظم وفعال، ويحول دون تكرار الأعطال المتكررة التي شهدتها المدينة في السابق
ثالثًا، تأتي انتظارات المواطنين لتزيد الضغط على إدارة المشروع، حيث يميل السكان إلى توقع نتائج سريعة وملموسة، ويؤثر تأخر رؤية التحسينات بشكل مباشر على رضاهم وثقتهم في الجهات المسؤولة. ومن هنا تنبثق أهمية التواصل المستمر والشفاف مع المواطنين، من خلال اطلاعهم على مدى تقدم الأشغال وتوضيح المناطق ذات الأولوية في التنفيذ، لضمان فهمهم للخطوات المرحلية للمشروع وتخفيف التوتر الاجتماعي الناتج عن أي تأخير مؤقت
رابعًا، تشكّل الإجراءات الإدارية أحد العوائق المحتملة لتنفيذ المشروع ضمن الجدول الزمني المخطط له. فالتأخيرات في استكمال المناقصات أو إصدار التصاريح أو التنسيق بين مختلف المصالح قد تعيق النسق العام للأعمال الميدانية. لذلك، يصبح الاستعداد المسبق لمواجهة هذه العقبات الإدارية أمرًا حاسمًا لضمان سير المشروع بسلاسة، وتحقيق الهدف النهائي المتمثل في تطوير شبكة إنارة عمومية متكاملة ومستدامة تخدم المدينة بأفضل صورة ممكنة

إنّ مشروع النجاعة الطاقية ليس مجرد تدخل تقني، ولا مجرد تمويل دولي عابر، بل امتحان لقدرة القيروان على إعادة بناء نفسها وفق رؤية جديدة.
ولأول مرة منذ سنوات، تلتقي الحاجة المحلية والقدرة الدولية على الدعم والقرار الوطني وحماس المجتمع المدني في اتجاه واحد.

إن نجحـت القيـروان فـي تحويـل مشروع الإضـاءة إلـى نموذج متكـامـل، فإنها لـن تُضيء شوارعهـا فـحسب، بـل ستفتح بابًا نحو مستقبل حضري يليق بمدينة عمرها أكثر من 13 قرنًا، وتطمح اليوم لأن يكون لها ضوء حديث يليق بتاريخها العريق.

إعداد وتحرير : نهى هداجي 

Written by: dream fm

Rate it

0%